فصل: (فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا):

(وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي) وَكَذَا إذَا قَالَ: آجَرَنِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْهُ وَدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ.
قُلْنَا: مُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ، وَدَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَهُوَ خَصْمٌ فِيهِ فَيَثْبُتُ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ، فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِالْحُجَّةِ، كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ لَا يَقْبَلُهُ.
(وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي، وَلَوْ قَالُوا نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْوَجْهِ الثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَيْثُ عَرَفَهُ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ أَوْ أَضَرَّهُ شُهُودُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَمَّسَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا): أَخَّرَ ذِكْرَ مَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَمَّنْ يَكُونُ خَصْمًا لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَلَكَاتِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْأَعْدَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا أَيْضًا، قُلْت: نَعَمْ مِنْ حَيْثُ الْفَرْقُ لَا مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ.
قَالَ (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ إلَخْ) إذَا ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكَهُ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْته مِنْهُ أَوْ آجَرَنِيهِ أَوْ أَعَارَنِيهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا تَنْدَفِعُ وَإِنْ أَقَامَهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَنْدَفِعُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ كَمَا قُلْنَا مِنْ دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَالًا فَكَمَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: ثُمَّ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا أَوْدَعَهُ فُلَانٌ يَعْرِفُونَهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، أَوْ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَا نَعْرِفُهُ، أَوْ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَفِي الثَّانِي لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّالِثُ كَالثَّانِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَكَالْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فَلِهَذَا لُقِّبَتْ الْمَسْأَلَةُ بِمُخَمِّسَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى، وَقِيلَ لُقِّبَتْ بِذَلِكَ لِلْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ خُصُومَةٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ.
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ، وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ بِدُونِ خَصْمٍ مُتَعَذِّرٌ إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ إدْخَالِ شَيْءٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُتَعَذِّرِ مُتَعَذِّرٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ: ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ، وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ خَصْمٌ فِيهِ؛ وَبِنَاءُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا وَلَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ كَمَا مَرَّ.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا الْبِنَاءَ لَكِنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ ضِمْنِيًّا وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ وَبِإِقْرَارِهِ، يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ، كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ.
مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِالْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ إثْبَاتُ إقْرَارِ نَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ.
وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْحَافِظَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُدَّعِي لَا لِإِثْبَاتِ الْإِقْرَارِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَا أَخَذَ مِنْ النَّاسِ سِرًّا إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ عَلَانِيَةً فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ لَا يَقْبَلُهَا، وَأَمَّا وَجْهُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ قَامَتْ بِمَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فَوَجَبَ قَبُولُهَا.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُودَعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيهِ هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ إلَى آخِرِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: أَتَعْرِفُ فُلَانًا؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: إذًا لَا تَعْرِفُهُ» وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ بَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَتْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَيْثُ عَرَفَ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ لِلْعِلْمِ بِيَقِينٍ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُودَعَ غَيْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذًا الشَّهَادَةُ تُفِيدُ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ الْخُصُومَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ وَلَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي تَعْرِيفًا تَامًّا إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ وَقَدْ أَثْبَتَ (قَوْلُهُ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ لَتَضَرَّرَ الْمُدَّعِي.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمُدَّعِي إنَّمَا لَحِقَهُ مِنْ نَفْسِهِ (حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ) أَوْ مِنْ جِهَةِ شُهُودِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا إلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَذُو الْيَدِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا بِظَاهِرِ الْيَدِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَتَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَالدَّعْوَى تَقَعُ فِي الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ، فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِذِمَّتِهِ وَبِمَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ. (وَإِنْ قَالَ: ابْتَعْتُهُ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ لَا بِيَدِهِ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَيَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (إنْ قَالَ ابْتَعْته مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ إلَخْ) وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اشْتَرَيْته مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي غَصَبْت هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي أَوْ سَرَقْته مِنِّي وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ، وَفِعْلُهُ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ غَيْرِهِ بَلْ فِعْلُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ ذَا الْيَدِ فِيهِ خَصْمٌ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُ الْيَدِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ، وَيَدُهُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَثْبَتَ أَنَّ يَدَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا، (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: سَرَقَ مِنِّي وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي الْفَاعِلَ لَا مَحَالَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَإِقَامَةً لِحِسْبَةِ السِّرِّ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: سَرَقْت، بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ كَشْفِهِ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي سَرَقَ مِنِّي وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ أَلْبَتَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ عَنْهُ شَفَقَةً عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ فَرُبَّمَا يُقْضَى بِالْعَيْنِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ جَعْلُهُ سَارِقًا فَمَا وَجْهُ الدَّرْءِ حِينَئِذٍ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ خَصْمًا وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى الْمُدَّعِي إنْ ظَهَرَ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ لِظُهُورِ سَرِقَتِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَسْرُوقِ إلَى الْمَالِكِ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ سَارِقًا انْدَفَعَ الْخُصُومَةُ عَنْهُ وَلَمْ يُقْضَ بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي، فَمَتَى ظَهَرَتْ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ قُطِعَتْ يَدُهُ لِظُهُورِهَا قَبْلَ أَنْ تَصِلَ الْعَيْنُ إلَى الْمَالِكِ، فَكَأَنَّ فِي جَعْلِهِ سَارِقًا احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ غُصِبَتْ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ فَلَا يُحْتَرَزُ فِي كَشْفِهِ، (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: ابْتَعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ أُسْقِطَتْ الْخُصُومَةُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ وُصُولُهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ كَوْنَهُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي ابْتَعْته مِنْ فُلَانٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ قَالَ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ أَسْقَطَ الْخُصُومَةَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِتَوَافُقِهَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ وُصُولُهُ إلَى ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهِ.

.بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ:

قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِهَا بَيْنَهُمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: تَهَاتَرَتَا، وَفِي قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُلِّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَيَتَهَاتَرَانِ أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْرَعَ فِيهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْحَكَمُ بَيْنَهُمَا» وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرْفَةَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ».
وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بَلْ يَعْتَمِدُ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحِلُّ يَقْبَلُهُ، وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ): لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ حُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ (قَالَ: وَإِنْ ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: تَهَاتَرَتَا) أَيْ تَسَاقَطَتَا مِنْ الْهِتْرِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ السَّقْطُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْخَطَأُ فِيهِ (وَفِي قَوْلٍ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي كُلِّ الْعَيْنِ وَفِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذِّرٌ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ فِيهِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَقْضِي بَيْنَ عِبَادِك بِالْحَقِّ، ثُمَّ قَضَى بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ» وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ الطَّائِيِّ «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي عَيْنٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ، كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِعُنُقِ الظَّالِمِ، ثُمَّ قَضَى بِهِ رَسُولُنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْقُرْعَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ وَقْتَ إبَاحَةِ الْقِمَارِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي إيجَابِ الْحَقِّ لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ، فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ قِمَارٌ فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ، فَإِنَّ صِحَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبَ الْمِلْكِ بِأَنْ رَآهُ يَشْتَرِي فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآخَرُ اعْتَمَدَ الْيَدَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الشَّهَادَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّصْنِيفِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا وَتَسَاوِيهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ (فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ) لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ.
قَالَ (وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَأَمَّا إذَا وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى وَإِنْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا (وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ بِهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ (إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الثَّانِي سَابِقًا) لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ.
وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَنِكَاحُهُ ظَاهِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السَّبْقِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ إلَخْ) دَعْوَى نِكَاحِ الْمَرْأَةِ إلَى رَجُلَيْنِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَاقِبَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا.
فَالْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُقَدَّمَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَا، فَإِنْ أَقَرَّتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ بَيِّنَةٌ فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَإِنْ أَقَرَّتْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ أَقَامَاهَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، لِأَنَّ النَّقْلَ إلَى بَيْتِهِ أَوْ الدُّخُولَ بِهَا دَلِيلُ سَبْقِ تَارِيخِ عَقْدِهِ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْخَارِجُ بَيِّنَةً عَلَى سَبْقِ نِكَاحِهِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَوْلَى مِنْ الدَّلَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ سَبْقَ التَّارِيخِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخًا لَمْ يُقْضَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلِاشْتِرَاكِ، وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا، فَأَيَّهمَا أَقَرَّتْ لَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْآخَرِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى إذَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِيهَا، أَمَّا إذَا احْتَمَلَتْ ذَلِكَ فَيَتَسَاوَيَانِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَأَيْضًا قَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَلَوْ عَايَنَّا تَقَدُّمَ الْأَوَّلِ حَكَمْنَا بِهِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ وَأَقَامَهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ وَمَضَى فَلَا يُنْقَضُ بِمَا دُونَهُ، إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الْمُدَّعِي الثَّانِي وَقْتًا سَابِقًا فَيُقْضَى لَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ) مَرَّ بَيَانُهُ. قَالَ (وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ) مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّينَ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ.
فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا أَخْتَارُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصَمَ فِيهِ لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ، وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحِمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَنَظِيرُهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ (وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ) لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاحْتَمَلَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي لَهُ بِالشَّكِّ (وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ، وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ، وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا لِمَا بَيَّنَّا.
إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ إلَخْ) عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ) احْتِرَازٌ عَمَّا سَيَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (وَأَقَامَا) عَلَى ذَلِكَ (بَيِّنَةً) مِنْ غَيْرِ تَأْقِيتٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَتُهُ وَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ إنْ كَانَ قَدْ نَقَدَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى وَالْحُجَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ دَعْوَاهُمَا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِأَنَّ شَرْطَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ (فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمْلِكْ الْكُلِّ) وَلَمْ يَحْصُلْ (فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ) فَإِنْ قِيلَ: كَذِبُ إحْدَى الْبَيْتَيْنِ مُتَيَقَّنٌ لِاسْتِحَالَةِ تَوَارُدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَمُلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْبَيِّنَتَانِ أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِكَوْنِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ شَهِدُوا بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ سَبَبًا فِي وَقْتٍ أَطْلَقَ لَهُ الشَّهَادَةَ بِهِ فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَا أَخْتَارُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ وَالْعَقْدُ مَتَى انْفَسَخَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَعُودُ إلَّا بِتَجَدُّدٍ وَلَا يُوجَدُ.
فَإِنْ قِيلَ هُوَ مُدَّعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي النِّصْفِ الْمَقْضِيِّ بِهِ (لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي) وَهُوَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِهِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ وَزَالَ الْمَانِعُ وَهُوَ مُزَاحَمَةُ الْآخَرِ (قَوْلُهُ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ، وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعَ احْتِمَالِ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُقْضَى لَهُ بِالشَّكِّ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا لَكِنَّهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَوْلَى (لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ) وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ (مَا) مَعَ الْبُعْدِ بُعْدِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ فَهُوَ بُعْدٌ.
فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَبْضُ الْقَابِضِ وَشِرَاءُ غَيْرِهِ حَادِثَانِ فَيُضَافَانِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيُحْكَمُ بِثُبُوتِهِمَا فِي الْحَالِ، وَقَبْضُ الْقَابِضِ مَبْنِيٌّ عَلَى شِرَائِهِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ظَاهِرًا فَكَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ بَعْدَ شِرَاءِ الْقَابِضِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّارِيخَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى (وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ) وَبَيِّنَةُ غَيْرِ الْقَابِضِ قَدْ تَكُونُ مِمَّا يَنْقُضُ الْيَدَ وَقَدْ لَا تَكُونُ (فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ) وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ هُنَاكَ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ ثَمَّةَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا. فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَكَانَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ (وَكَذَا إذَا ذَكَرَ الْآخَرُ) يَعْنِي بَيِّنَةَ الْخَارِجِ (وَقْتًا) فَذُو الْيَدِ أَوْلَى، لِأَنَّ بِذِكْرِ الْوَقْتِ لَا يَزُولُ احْتِمَالُ سَبْقٍ فِي ذِي الْيَدِ وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ (إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ الْخَارِجِ أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ) فَإِنَّهُ تَنْقُضُ بِهَا الْيَدَ (لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ)،.
قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبَضَا) مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ (وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى) لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ، وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا (وَالْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ، وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ وَالتَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحٌ، وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ.
وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ وَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ وَهَذَا أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ) احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ (وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى) لِأَنَّهُ (لِكَوْنِهِ مُعَايَنَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ) كَانَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ ثَابِتَيْنِ مَعًا، وَالشِّرَاءُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ دُونَ الْهِبَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى (وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا هِبَةً وَقَبْضًا وَالْآخَرُ صَدَقَةً وَقَبْضًا فَهُمَا سَوَاءٌ، وَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ) فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ التَّسَاوِيَ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَازِمَةٌ لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ دُونَ الْهِبَةِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِاللُّزُومِ تَرْجِيحٌ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ: أَيْ بِمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا تَرْجِيحَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ (وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ بِالتَّنْصِيفِ بَيْنَهُمَا (فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ) كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى صَحِيحٌ (وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا) كَالدَّارِ وَالْبُسْتَانِ (عِنْدَ الْبَعْضِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ قَبْضَهُ فِي الْكُلِّ، ثُمَّ الشُّيُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ طَارِئٌ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ فَالصَّدَقَةِ (وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ) وَلَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ (لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ فَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ) قِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ عَلَى قِيَاسِ هِبَةِ إيرَادِ الدَّارِ لِرَجُلَيْنِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ فَإِنَّمَا نَقْضِي لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ، وَعَنْ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِرَجُلَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَانِعٌ صِحَّتَهَا. قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَهُمَا سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ، إذْ التَّزَوُّجُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ صَحِيحٌ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَالَ (وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ إلَخْ) إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يُقْضَى بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَيُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إذَا كَانَ نَقَدَهُ إيَّاهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الشِّرَاءُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَاتِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ لِكَوْنِهَا حُجَّةً مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ، فَإِنْ قَدَّمْنَا النِّكَاحَ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ بَعْدَهُ يَبْطُلُ إذَا لَمْ تُجِزْ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ قَدَّمْنَا الشِّرَاءَ صَحَّ الْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ وَالتَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ إنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُهُ فَتَعَيَّنَ تَقَدُّمُهُ وَوَجَبَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ.
وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالنِّكَاحُ إذَا تَأَخَّرَ لَمْ يُوجِبْ مِلْكَ الْمُسَمَّى كَمَا إذَا تَأَخَّرَ الشِّرَاءُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ مِلْكِ الْعَيْنِ وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى.
بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَاهَا فَالرَّهْنُ أَوْلَى، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَفِي الْقِيَاسِ: الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْهِبَةِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ، وَلَا تُرَدُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهَا بَيْعٌ انْتِهَاءً وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلَمْ يَتَلَقَّ الْآخَرُ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَالتَّارِيخِ، فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا يُتَلَقَّى الْمِلْكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يُتَلَقَّ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا.
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْضَى بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ لِلتَّارِيخِ عِبْرَةٌ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى لِمَنْ أَرَّخَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِمَنْ لَمْ يُؤَرِّخْ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ وَسَيَأْتِيك تَمَامُ بَيَانِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: (وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ) مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ وَذَكَرَا تَارِيخًا) فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا ثُمَّ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ (وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ شِرَاءُ غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ وَأَقَامَاهَا وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَرَّخَا تَارِيخَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ ثَابِتًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ بَاطِلًا.
قِيلَ لَا تَفَاوُتَ فِيمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إذَا أُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى عَلَى مَا سَيُذْكَرُ بُعَيْدَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ) لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ ذَا الْيَدِ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الذَّخِيرَةِ: دَارً فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بِكَذَا وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ) كَأَنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ زَيْدٍ مَثَلًا وَآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ عَمْرٍو (وَذَكَرَا تَارِيخًا وَاحِدًا فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا) وَادَّعَيَا وَأَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا (ثُمَّ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ (وَلَوْ أُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ.
فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يُحْكَمُ بِهِ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَلَوْ عَايَنَّا بِيَدِهِ الْمِلْكَ حَكَمْنَا بِهِ.
فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ شِرَاءُ غَيْرِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ.
وَأَمَّا الْبَاقِي فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَمَنْ ثَبَتَ لَهُ عِيَانًا فَيُحْكَمُ بِهِ، إلَّا إذَا تَبَيَّنَ تَقَدُّمُ شِرَاءِ غَيْرِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي الْفَرْقِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ إنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ التَّعَاقُبُ ضَرُورِيًّا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ مِلْكٌ فِي وَقْتٍ وَمِلْكُ غَيْرِهِ مَشْكُوكٌ إنْ تَأَخَّرَ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكٌ فَتَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ بِالْوَقْتِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فَكَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَا مُتَعَاقِبَيْنِ جَازَ أَنْ يَقَعَا مَعًا، وَفِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ أَيْضًا، فَضَعْفُ قُوَّةِ الْوَقْتِ عَنْ التَّرْجِيحِ لِتَضَاعُفِ التَّعَارُضِ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ) وَلِطَلَاقِ الْبَاعَةِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُمَلِّكَيْنِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِمَّنْ مُمَلِّكَيْهِمْ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَ أَوْلَى) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً.
وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَوُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى.
وَلَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدَّفْعِ، وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا حَيْثُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ، الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الَّذِي وَقَّتَ أَوْلَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الَّذِي أَطْلَقَ أَوْلَى لِأَنَّهُ ادَّعَى أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ وَرُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ.
وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ؛ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُهُ احْتِمَالُ عَدَمِ التَّقَدُّمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ إلَخْ) وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا فَذُو الْيَدِ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ.
رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا كَانَتْ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَتْ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى تَارِيخٍ وَغَيْرِهِ إلَّا لِلنِّتَاجِ، لِأَنَّ النِّتَاجَ دَلِيلٌ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ دُونَ التَّارِيخِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَتَا بِالتَّارِيخِ عَلَى الشِّرَاءِ وَإِحْدَاهُمَا أَسْبَقُ مِنْ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الْأَسْبَقَ أَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ) فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنًا وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا قَبُولُ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ حَتَّى تَنْدَفِعَ عَنْهُ دَعْوَى الْمُدَّعَى عَنْهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ.
وَلَمَّا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ صَارَتْ هَاهُنَا بَيِّنَتُهُ بِذِكْرِ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ مُتَضَمِّنَةً دَفْعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ التَّلَقِّي مِنْ قِبَلِهِ فَتُقْبَلُ لِكَوْنِهَا لِلدَّفْعِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا) كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَقْتِ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ الدَّلِيلِ فِي الْجَانِبَيْنِ (وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَوُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْدَمُ، وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى) وَقَدْ مَرَّ (وَلَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا.
تَضَمَّنَتْ مَعْنَى) الدَّفْعِ لِمَا مَرَّ (وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا تَعَيَّنَ التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ، وَهَاهُنَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ بِذِكْرِ تَارِيخِ إحْدَاهُمَا لَمْ يَحْصُلْ الْيَقِينُ بِأَنَّ الْآخَرَ تَلَقَّاهُ مِنْ جِهَتِهِ لِإِمْكَانِ أَنَّ الْأُخْرَى لَوْ وُقِّتَتْ كَانَ أَقْدَمَ تَارِيخًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أُرِّخَا وَكَانَ تَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَقْدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ (وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ بِأَيْدِيهِمَا) فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَالْآخَرُ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ التَّارِيخُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، قِيلَ: الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ لَا يَسْتَقِيمُ لِمُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ (وَلَوْ كَانَتْ) الْعَيْنُ (فِي يَدِ ثَالِثٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا) أَيْ وُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِ الْخَارِجَيْنِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْأُخْرَى (فَهُمَا سَوَاءٌ) يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الَّذِي وُقِّتَ أَوْلَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الَّذِي أُطْلِقَ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ) الْمُتَّصِلَةِ كَالسَّمْنِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْأَكْسَابِ فَكَانَ مِلْكًا لِلْأَصْلِ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ التَّارِيخِ (لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ، وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُّهُ) أَيْ يُزَاحِمُهُ (احْتِمَالُ عَدَمِ التَّقَدُّمِ) لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يُؤَرَّخْ سَابِقٌ عَلَى الْمُؤَرَّخِ مِنْ حَيْثُ إنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ حُكْمًا وَلَا حَقَّ مِنْ حَيْثُ إنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ تَارِيخِ الْمُؤَرَّخِ، وَلِذَا كَانَ غَيْرُ الْمُؤَرَّخِ سَابِقًا مِنْ وَجْهٍ لَاحِقًا مِنْ وَجْهٍ كَانَ الْمُؤَرَّخُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَاسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَاللُّحُوقِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَلَكَا مَعًا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى التَّارِيخِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ دَعْوَى التَّارِيخِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الشِّرَاءِ اتَّفَقَا عَلَى الْحُدُوثِ، وَلَا بُدَّ لِلْحُدُوثِ مِنْ التَّارِيخِ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ. قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ، الشَّرْحُ قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ إلَخْ) وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ (بَيِّنَةً بِالنِّتَاجِ فَذُو الْيَدِ أَوْلَى) وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَفِي الْقِيَاسِ الْخَارِجُ أَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ يُثْبِتُ بِهَا أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ، وَذُو الْيَدِ لَا يُثْبِتُ بِهَا اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ وَهُوَ الْأَوَّلِيَّةُ بِالنِّتَاجِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ (فَاسْتَوَيَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيُقْضَى لَهُ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ، أَمَّا قَبْلَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَافِعَةٌ لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى حُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْخَارِجُ عَلَى ذِي الْيَدِ فِعْلًا نَحْوَ الْغَصْبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الرَّهْنِ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَى ذَلِكَ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِأَنَّ ذَا الْيَدِ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِظَاهِرِ يَدِهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَصْلُ الْمِلْكِ وَالْخَارِجُ يُثْبِتُ الْفِعْلَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا فَكَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَضَاءِ لِذِي الْيَدِ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ (خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَتَيَقَّنُ كَذِبَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ نِتَاجَ دَابَّةٍ مِنْ دَابَّتَيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَسْأَلَةِ كُوفَةَ وَمَكَّةَ.
وَوَجْهُ صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي خَارِجَيْنِ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْقَاضِي يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَا ذَكَرْنَا فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا ظَاهِرًا مُطْلَقًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّتَاجِ لَيْسَتْ بِمُعَايِنَةٍ لِلِانْفِصَالِ مِنْ الْأُمِّ بَلْ بِرُؤْيَةِ الْفَصِيلِ يَتَّبِعُ النَّاقَةَ وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي التَّحْلِيفِ؛ فَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَحْلِفُ ذُو الْيَدِ لِلْخَارِجِ، وَعِنْدَهُ يُسْتَحْلَفُ وَلَوْ تَلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ (وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى أَيُّهُمَا كَانَ) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا (وَلَوْ قَضَى بِالنِّتَاجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ذُو الْيَدِ) لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ، وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ.
الشَّرْحُ:
(لَوْ تَلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ) مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ (الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ) فَكَانَ هُنَاكَ بَائِعَانِ (وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَ مَنْ تَلَقَّى مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ) فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ قَدْ حَضَرَا وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ يُقْضَى ثَمَّةَ لِصَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ هَاهُنَا (وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى) خَارِجًا كَانَ أَوْ ذَا يَدٍ (لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ التَّلَقِّي لِلْآخَرِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ (وَلَوْ قُضِيَ بِالنِّتَاجِ لِذِي الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ الثَّالِثُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يُقْضَى لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ذُو الْيَدِ لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْمِلْكُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ آخَرَ، فَإِنْ أَعَادَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَتَهُ قُضِيَ لَهُ بِهَا تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ يُقْضَى بِهَا لِلثَّالِثِ (وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ) فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ قَطْعًا فَكَانَ الْقَضَاءُ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِهِ كَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ عَنْ خِلَافِ النَّصِّ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّفْعَ لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي كَانَ مَوْجُودًا وَالْقَضَاءُ كَانَ خَطَأً فَأَنَّى يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُرَجِّحُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَفَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ قَضَاءَهُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَيُرَجِّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَهُ حَالَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَنْ اجْتِهَادِ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يَدْفَعُ الْبَيِّنَةَ مِنْ ذِي الْيَدِ، فَإِذَا أَقَامَا مَا تُدْفَعُ بِهِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ. قَالَ (وَكَذَلِكَ النَّسْجُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً) كَغَزْلِ الْقُطْنِ (وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ كَحَلْبِ اللَّبَنِ وَاِتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَاللِّبَدِ وَالْمِرْعِزَّى وَجَزِّ الصُّوفِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ مِثْلُ الْخَزِّ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ، فَإِنْ أَشْكَلَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَكَذَلِكَ النَّسْجُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى فِي النِّتَاجِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، وَمَا ذَهَبَا إلَيْهِ اسْتِحْسَانٌ تُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ بِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نُتِجَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ» فَلَا يُلْحَقُ بِالنِّتَاجِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ إذَا دَعَاهُ بِهِ كَانَ كَدَعْوَى النِّتَاجِ، كَمَا إذَا ادَّعَتْ غَزْلَ قُطْنٍ أَنَّهُ مِلْكُهَا غَزَلَتْهُ بِيَدِهَا، وَكَمَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ نَسَجَهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ، أَوْ ادَّعَى لَبَنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ حَلَبَهُ مِنْ شَاتِه، أَوْ ادَّعَى جُبْنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ صَنَعَهُ، فِي مِلْكِهِ، أَوْ لِبَدًا بِأَنَّهُ صَنَعَهُ، أَوْ مَرْعَزِيًّا وَهِيَ كَالصُّوفِ تَحْتَ شَعْرِ الْعَنْزِ، أَوْ صُوفًا مَجْزُوزًا بِأَنَّهُ مِلْكُهُ جَزَّهُ مِنْ شَاتِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَادَّعَى ذُو الْيَدِ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِذَلِكَ لِذِي الْيَدِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَمَا تَكَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ؛ فَالْخَزُّ وَهُوَ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا، قِيلَ هُوَ يُنْسَجُ فَإِذَا بَلِيَ يُغْزَلُ مَرَّةً أُخْرَى وَيُنْسَجُ، فَإِذَا ادَّعَى ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ مِنْ خَزِّهِ، أَوْ ادَّعَى دَارًا أَنَّهَا مِلْكُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ ادَّعَى غَرْسًا أَنَّهُ مِلْكُهُ غَرَسَهُ، أَوْ ادَّعَى حِنْطَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ زَرَعَهَا أَوْ حَبًّا آخَرَ مِنْ الْحُبُوبِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَادَّعَى ذُو الْيَدِ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لِتَكَرُّرِهَا، أَمَّا الْخَزُّ فَلِمَا نَقَلْنَاهُ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِيَةِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْغَرْسُ وَالْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ تُزْرَعُ ثُمَّ يُغَرْبَلُ التُّرَابُ فَتُمَيَّزُ الْحُبُوبُ ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ (فَإِنْ أَشْكَلَ) شَيْءٌ لَا يَتَيَقَّنُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ فِيهِ (يَرْجِعُ إلَى) الْعُدُولِ مِنْ (أَهْلِ الْخِبْرَةِ) وَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (فَإِنْ أَشْكَلَ) عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ (كَانَ بِخَيْرِ النِّتَاجِ) كَمَا رَوَيْنَا (وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ) قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى) لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَهَذَا تَلَقَّى مِنْهُ، وَفِي هَذَا لَا تَنَافِي فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَالَ: (وَإِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ إلَخْ) وَإِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَذُو الْيَدِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَذُو الْيَدِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْخَارِجَ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَذُو الْيَدِ تَلَقَّى مِنْهُ، وَلَا تَنَافِيَ فِي هَذَا فَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِلْخَارِجِ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ) قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيَكُونُ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُمْكِنٌ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ذُو الْيَدِ مِنْ الْآخَرِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا يَعْكِسُ الْأَمْرَ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا هَاهُنَا، وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَهَا ذُو الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتَا وَتُرِكَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُقْضَى بِهِمَا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يَقْبِضْ لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ كَمَا مَرَّ، وَلَا يُعْكَسُ) أَيْ لَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهُ (لِأَنَّ) ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ (الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَذَلِكَ (لَا يَجُوزُ) وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ، وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَاهُنَا، (وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَإِلَّا فَلَا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ (وَ) هَاهُنَا (لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ) لِلْخَارِجِ لِأَنَّا إذَا قَضَيْنَا بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إنَّمَا نَقْضِي لِيَزُولَ مِلْكُهُ إلَى الْخَارِجِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ (فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ) وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ. ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَيَا لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ.
وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
(ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَى الثَّمَنَانِ لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ) فَإِنَّ الْبَيْعَيْنِ لَمَّا ثَبَتَا عِنْدَهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا الثَّمَنَ عِنْدَ مُشْتَرِيهِ فَيُتَقَاصَّ الْوُجُوبُ بِالْوُجُوبِ (وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ) لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، فَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ دَعْوَاهُمَا مِثْلَ هَذَا الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ، وَفِي مِثْلِ الْإِقْرَارِ تَتَهَاتَرُ الشُّهُودُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ لِوُجُودِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْعَيْنِ ذِكْرُ التَّارِيخِ وَلَا دَلَالَةَ تَارِيخٍ حَتَّى يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرُ لَاحِقًا، وَإِذَا جَازَ الْبَيْعَانِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي الْقَبُولِ تَسَاقَطَا فَبَقِيَ الْعَيْنُ عَلَى يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَتْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ) لِأَنَّ الْجَمْعَ عِبَارَةٌ عَنْ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَهَاهُنَا لَمْ يُمْكِنْ وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ وَلَمْ تُثْبِتَا قَبْضًا وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ أَثْبَتَا قَبْضًا يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ جَائِزَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ أَوْ سَلَّمَ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ) وَقْتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقَ أَوْ وَقْتُ ذِي الْيَدِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقَ (فَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْقَبْضِ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ فَإِنَّهُ جَازَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا بَعْدَمَا قَبَضَهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا (وَإِنْ كَانَ وَقْتُ ذِي الْيَدِ أَسْبَقَ يُقْضَى بِالْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ) جَمِيعًا، يَعْنِي سَوَاءٌ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا، أَمَّا إذَا شَهِدُوا بِهِ فَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْهَدُوا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ مِنْ الْخَارِجِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ، أَوْ سَلَّمَ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ عَارِيَّةٍ أَوْ إجَارَةٍ بِاعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ) لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ الشَّاهِدِينَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ بِقُوَّةٍ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ الشَّاهِدَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ بِقُوَّةٍ فِيهَا) أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يَتَرَجَّحُ بِخَبَرٍ آخَرَ وَلَا الْآيَةُ بِآيَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ بِنَفْسِهِ، وَالْمُفَسَّرُ يُرَجَّحُ عَلَى النَّصِّ وَالنَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ (كَمَا عُرِفَ) فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالشَّهَادَةُ الْعَادِلَةُ تَتَرَجَّحُ عَلَى الْمَسْتُورَةِ بِالْعَدَالَةِ لِأَنَّهَا صِفَةُ الشَّهَادَةِ، وَلَا تَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لِلشَّهَادَةِ بَلْ هِيَ مِثْلُهَا وَشَهَادَةُ كُلِّ عَدَدٍ نِصَابٌ كَامِلٌ. قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ فَسَلَّمَ لَهُ بِلَا مُنَازَعٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا (وَقَالَا: هِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا) فَاعْتَبَرَا طَرِيقَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَتُقَسَّمُ أَثْلَاثًا، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ لَا يَحْتَمِلُهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الزِّيَادَاتِ.
قَالَ (وَلَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا سَلِمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ) لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ فَيَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ، وَالنِّصْفُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ صَاحِبُهُ لَا يَدَّعِيهِ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ سَالِمٌ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ دَعْوَاهُ كَانَ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِهِ وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الدَّارِ وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ) وَعِنْدَهُمَا هِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ يُضْرَبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ كَأَصْحَابِ الْعَوْلِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ وَغُرَمَاءُ الْمَيِّتِ إذَا ضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ دُيُونِهِ وَالْمُدْلِي بِسَبَبٍ غَيْرِ صَحِيحٍ يَضْرِبُ: أَيْ يَأْخُذُ بِحَسَبِ كُلِّ حَقِّهِ بِقَدْرِ مَا يُصِيبُهُ حَالَ الْمُزَاحَمَةِ كَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ.
وَعِنْدَهُمَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالتَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَمَتَى وَجَبَتْ لَا بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ؛ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَفُضُولِيٌّ آخَرُ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا، فَعَلَى هَذَا أَمْكَنَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْعَوْلِ وَعَلَى الْمُنَازَعَةِ وَالِافْتِرَاقِ.
وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْعَوْلِ فِيهِ الْعَوْلُ فِي التَّرِكَةِ.
أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ.
وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ؛ أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى انْضِمَامِ الْإِجَازَةِ إلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ كَانَ فِي الثَّمَنِ فَتَحَوَّلَ بِالشِّرَاءِ إلَى الْمَبِيعِ وَمِمَّا افْتَرَقُوا فِيهِ مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الشَّهَادَةُ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا صَحِيحًا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، فَيَقُولُ مُدَّعِي النِّصْفِ: لَا دَعْوَى لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَانْفَرَدَ بِهِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ أَقَامَا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِيهِ فَكَانَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيُجْعَلُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ الرُّبْعُ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِيهَا، فَمَا مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ، فَيَضْرِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ دَعْوَاهُ فَاحْتَجْنَا إلَى عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ صَحِيحٌ وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ، فَيَضْرِبُ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ وَيَضْرِبُ مُدَّعِي النِّصْفِ بِسَهْمٍ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا.
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ لَا تَحْتَمِلُهَا الْمُخْتَصَرَاتُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ) فَمِنْ نَظَائِرِهَا: الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ إذَا أَدَانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَوْلَى الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا، وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا، فَتَذَكُّرُ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الِاسْتِخْرَاجَ.
قَالَ (وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا إلَخْ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِئَلَّا يَكُونَ فِي إمْسَاكِهِ ظَالِمًا حَمْلًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، فَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا فَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا وَمُدَّعِي الْكُلِّ يَدَّعِي عَلَيْهِ النِّصْفَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَقَامَهَا فَلَهُ جَمِيعُ الدَّارِ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَدَّعِهِ وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ قَالَ (وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ عِنْدَهُ، وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى) لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ (وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا.
وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ إلَخْ) إذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ عِنْدَهُ وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ شُهُودِهِ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَهَادَةِ الْحَالِ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ، وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا أَقَامَاهَا وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا، هَذَا إذَا كَانَا خَارِجَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَا الْيَدِ فَإِنْ وَافَقَ سِنُّ الدَّابَّةِ تَارِيخَهُ أَوْ أَشْكَلَ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ، إمَّا لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي شُهُودِهِ، أَوْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيتِ بِالْإِشْكَالِ، وَإِنْ كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ بَيْنَ وَقْتِ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ: تَهَاتَرَ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَوْلُهُ وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ يَعْنِي فِي الْخَارِجَيْنِ (بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَيُمْنَعُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا، فَتُتْرَكُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ قَضَاءَ تَرْكٍ كَأَنَّهُمَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْأَصَحُّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ: يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا، وَفِيمَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فِي دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ.
أَمَّا إذَا كَانَ مُشْكِلًا فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَحِقَهُمَا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي اعْتِبَارِهِ إبْطَالُ حَقِّهِمَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا، وَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا التَّوْقِيتَ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ هِيَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَيْفَ تُتْرَكُ فِي يَدِهِ مَعَ قِيَامِ حُجَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَى أَبُو اللَّيْثِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَقْتَيْنِ لَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ وَتُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَاءَ تَرْكٍ؛ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
وَقَوْلُهُ (يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا) لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الدَّعَاوَى بِلَا حُجَّةٍ، وَاتِّفَاقُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ذِي الْيَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ وُجُودِ الْمُكَذِّبِ قَالَ (وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُمَا سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْمُودَعَ لَمَّا جَحَدَ صَارَ غَاصِبًا، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.